كتب محامي أحد معتقلي مظاهرات "برافر لن يمر" ضد مخطط إسرائيل لتهجير أكثر من خمسين ألف فلسطيني في النقب، والتي جرت في الخامس عشر من تمّوز؛ على حسابه على موقع التواصل الإجتماعي "فيسبوك"، أنه عندما دخل إلى مقرّ الشرطة الإسرائيليّة ليسأل عن موكّلهِ، بعد أن تم القبض عليه خلال النشاطات السلميّة التي عمّت أنحاء فلسطين لمنع المُخطّط، أعرب له الضابط المُحقِق، عن قلقه حيال هذه المظاهرات. حيثُ أن الشرطة - وأجهزة الأمن الإسرائيليّة عامة- تُواجه جيلاً جديداً من الشباب، مُسيّساً، متعلماً وأكثر وعيّاً. ليس هذا وحسب، بل إنه جيل تتقدمّه النساء، فيقُدنّ المظاهرات ويبادرن إلى الحِراك.
من يتابع عن كثب كيف تبني المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة "بروفايل" الخطر على أمنها القوميّ، وكيف تبلوِّر ملفها الإستعماريّ، ومن تابع خصيصاً أحداث الخامس عشر من تموز، لا بُد أنه لا يجد جديداً في شهادة المحقق "القلِق". لقد تعاملت الشرطة بوحشيّة مع المتظاهرات والمتظاهرين الفلسطينيين، كما تفعل دائماً بغض النظر عن "مواطنتهم"، ولكنها دون أدنى شكّ استهدفت النساء، ضرباً، وتعنيفاً، وجراً على الأرض، وإعتقالاً.
على المستوى الماديّ، قمعت الشرطة المُظاهرات كما فعلت في الماضي، وكما ستفعل في المُستقبل دون أدنى شكّ. ومجازيّاً فبإمكاننا أن نتحدّث عن عنف إنتقاميّ؛ فصورة نساء مقاومات يتصدرّن المشهد ويتحولنّ إلى أيقونة شعبيّة وعالميّة مرعبة على وجهيها؛ وجه الحراك السلميّ، الذي دونه تنعدم مشاركة النساء، والذي تستصعب إسرائيل بأذرعها الأمنيّة كما إعلامها التعامل معه لأنه محطّ تعاطف أوسّع وأداة فعّالة لتحطيم أكاذيب حول عنف المتظاهرين. ووجه المجتمع الفلسطينيّ الذي تخرج نساءه وتشارك في النضال، بعكس النظرة الإسرائيليّة السائدة. إنه عنف ينمّ عن إحباط، إحباط على تمرّد عملوا ويعملون جاهدين، ليل نهار، على خنقه ومنعه بكل الوسائل. كما يعملون، بذات الهمة، على إبقاء المجتمع الفلسطينيّ رجعيّ لكي تكون السيطرة عليه أسهل وبأقل تكلفة، فتبقى أسطورة "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط" مسيّطرة على المشهد.
المُجتمع المطيع
إنّ المجتمع اليهوديّ الإسرائيليّ والذي تُشكِّل العنصريّة فيه - تجاه الفلسطينيّ بشكل خاص ومن هو ليس "يهوديّ أوروبيّ الأصل" بشكل عام- مِدماكاً مركزياً في تكوينه؛ هو مجتمع ذكوريّ حتىّ النخاع. تتجسد العديد من مثله العليّا بمفاهيم السيّطرة، القوّة، التملّك والردع. وهذه جليّة بتبجيله للجنديّة ودور العسكر في حياة الدولة والمجتمع. فالأسلحة، الدبابات، الخطاب العسكريّ والرموز العنفيّة (والفاليّة) على أشكالها عِبارة عن جزء جوهريّ في تكوينة الإنتماء الوطنيّ والخيال الجمعيّ لغالبيّة اليهود الإسرائيليين. ومع كل هذا، فهو مجتمع مُطيع داخلياً، لا يواجه حالات تمرّد، إذا ما إستثنينا تحركات اليهود من أصول شرقيّة في سبعينيات القرن. وهذه طبيعة المجتمعات التي تحافظ بشكل دائم على "بعبع" خارجي كعدوّ يتربص بها، فيصبح التوافق والإجماع طريقة التعامل مع أزماتها.
المكان الوحيد، حتى الآن، الذي تواجه فيه الشرطة الإسرائيليّة "مواطنين ومواطنات" في حالة تمرّد حقيقيّة على السلطة هي في لقائها مع الفلسطيني أو الفلسطينّية. وحالة التمرّد هذه تتكثف في مواجهة النساء الفلسطينيات. فوقوف الشرطيّ أمام متظاهرة في النقب، أم الفحم، عرابة أو الناصرة، هو وقوف أمام متمردّة بكل ما تعنيه الكلمة من معان. إنها تتمرد أولاً على الدولة التي يُمثلّها هو هنا والآن، دولة الإستعمار التي استعملت كل جبروتها وعنفها ووسائل نشر الأكاذيب لكي لا تقف هذه مُقاومِة أمامه ولكي تُجهض إمكانيّة رفضها. وهي ثانياً تتمرّد على سلطته الذكوريّة؛ رجل مُدّجج بالأسلحة يفرض سطوته ليطوِّق إرادتها. وثالثاُ، على دولة الإستعمار الذكوريّة التي تستعمل مسميات "تخليص النساء" لتقمع كل النساء اللواتي يقعن تحت سيطرتها. كما أنها تتمرد على سلطة مجتمعها الأبوي والتي تتقبل شرائح منه نضالها هذا، وأخرى إما ترفضه علناً او تُدير ظهرها لمكتسباته.
العنصريّة مصنع لإنتاج الصدمات
يحاول الإعلام الإسرائيليّ، كما المجتمع وأذرع الدولة التعامل مع النساء الفلسطينيات المناضلات، كأحداث شاذة ومفاجآت صاعقة. لا يُخفون صدمتهم من هذه الظاهرة "الغريبة"، كما فعل المُحقِّق. فعامِل الصدمة يلازم تعاملهم مع تمرد الفلسطينيين عامة ووجود النساء في الصفوف الأماميّة خاصة. وفي الغالب تختلط عليهم أفكارهم النمطيّة عن المجتمع العربيّ من جهة، وما يريدوه لهذا المجتمع من جهة أخرى وأخيراً تختلط هذه وتلك مع الحقيقة. من ناحية تسود النظرة أنهم يتعاملون مع مجتمع محافظ، رجعي، لا يُنتج رفضاً ولا نديةً، فلا تشارك النساء في العمل السياسيّ والمجتمعيّ ولا يخرجن أو يقدنّ المظاهرات أو يقاومن. المشكلة أن هذه الصورة النمطيّة تطابق تماماً إرادتهم؛ هذا بالضبط ما يريدوه للمجتمع الفلسطيني، فتكرارهم لهذه الصورة هو ليس أملاً في تغييرها – كما تفعل غالبية نشيطات ونشيطي المجتمع – بل هم يفعلون كل ما بوسعهم حتى يبقى المجتمع الفلسطيني محافظاً وأبوياً. وعندما يُصبح جليّاً أن هناك تغيير مجتمعي لا يستهان به، وخطاب واع ونسوي اخترق حتى بعض المؤسسات التقليديّة- حتى وإنّ بشكل سطحي ومحدود- عادة ما يرافق هذه المعرفة صدمة؛ نكران، محاولة تشويه، تغيير مجرى الأمور إن أمكن، والإنتقام أخيراً.
فعلى سبيل المِثال، لو نظرنا إلى الطريقة التي يتم التعامل فيها مع عضوة الكنيست حنين زعبي، ظهر لنا إرتباك المؤسّسة وإعلامها وحرجها الشديد. فما بدأ في محاولة التهجم عليها جسدياً (لكونها امرأة) في البرلمان الإسرائيلي بعد مُشاركتها في قافلة "مرمرة"، إنتهى بمحاولة الإساءة إلى شخصها لأنها عزباء، في إسرائيل "النسويّة"، التي تتغنى في العالم بأنها "جنّة" شرق أوسطيّة للأقليات على أنواعها. حقيقة، من يتعمّق أكثر في التعامل مع هذه الشخصيّة الجماهيريّة في الإعلام الإسرائيليّ لا بُد أنه يلحظ عبثيّة محضة وإستعصاء على تأطيرها ضمن المُتعارف عليه من خطاب عن النساء العربيات. وصول هذا الإستعصاء حدّ رفض الكثير من القوانين التي تتقدّم بها النائبة لتحسين أوضاع النساء، فقط لأن المؤسسة ترفض أن يُقال عن تفوّق إمرأة عربيّة في إحلال أي نوع من مساواة مؤسساتيّة بين الجنسين، فهي تعلن رفضها أن يُعلِّمها العرب ما معنى الحقوق والواجبات.
لا يُهم كم من مرّة تفاجأ المجتمع الإسرائيلي بالتعرف على نساء فلسطينيات، متمردات نساء عاديات وأخريات نشيطات - حتى وإن كان هذا من خلال إعلام أوصلهم بشكل مشوّه- فهو ما زال يتفاجأ. العنصريّة هي مصنع لإنتاج مفاجآت لا نهائيّ. فالمعرفة وحدها لا تمحو آثار العنصريّة، فهذه بحاجة إلى إرادة. هكذا تراهم يتفاجؤون من ردة فعل الفلسطيني الغاضبة على تهجيره تارة، ويتفاجؤون أن عمليات التدجين لم تنفع، ويستغربون أكثر الأشياء طبيعيّة: أن تخرج النساء كما الرجال للدفاع عن مستقبلها.
سيتفاجأ المحقق في قسم الشرطة كما قوات الشغب وقمع المظاهرات، من الأغلبيّة الشابة ومن تواجد النساء. سيكذِّبوا أعينهم، سيقولون أن هذا غريب أو غير ممكن أو بإختصار: مُقلق. وهذا بالضبط ما جعل فعل الإنتقام العنيف "ضروري"، إنهم ينتقمون من رؤيا مستحيلة، وينتقمون كي لا يتكرر الفعل، وينتقمون لفحولة الدولة ومؤسساتها، وينتقمون لمعنى السلطة الذي لا هوانة بالدفاع عنه وعن سطوته. لا يسع المرء، وهو يشاهد إنقضاض الأمن على المتظاهرات، إلاّ أن يراهم ينتقمون لأن الصورة في مخيلتهم لا تتطابق والواقع.
الدولة وإعلامها
أما على صعيد الدولة وأجهزتها فصورة النساء الفلسطينيات وهنّ يخرجن في تظاهرات سلميّة هو ليس أقل من كابوس. ليس خوفاً على إجماعها الداخليّ الذي تُحكِم السيطرة عليه، ما دامت تُحكم السيطرة على الإعلام وتقنّن تمرير المعلومات له وتشوهها قدر المستطاع، ولكن خوفها هو من أن يتم إنتاج أسطورة الإنتفاضة الأولى؛ إنتفاضة شعبيّة سلميّة مع ما صاحبته هذه من تضامن وقوة إعلاميّة وعالميّة. فمن هذه الناحيّة تفضِّل إسرائيل التعامل مع مجموعة مسلّحة أكثر بكثير من التعامل مع مسيرات شعبيّة او إغلاقات للشوارع. وتواجد النساء المكثّف في هذه التظاهرات يجعل الكابوس أثقل وإحتماله أصعب، لأنه هو هو الدلالة على هذه السلميّة والتأكيد الرسميّ لهذه الرواية. كلما ازدادت أعداد النساء في الشارع، كلما استحالت إمكانيّة تشويه هذه التظاهرات وتسويق إسرائيل كبصيص النور الوحيد في المنطقة.
أضف إلى هذا، أن إسرائيل كالعديد من القوى الكولونياليَة والإحتلاليّة التي عرفتها الإنسانيّة في الماضي والحاضر، تستهلك بشكل مثابر العلامة المميّزة "حقوق النساء ومساواتهن" في ترويجها لضرورة بقاء إمبراطوريتها وكونها تقف لوحدها في مجابهة قوى ظلاميّة متخلفة. فقد إعتدنا "الإسطوانة" إياها، أن إسرائيل: "تُعطي النساء كامل حقوقهن كما لا تفعل أية دولة عربيّة"، و"تسمح للنساء بالعمل وتشجعّهن دون باقي الدول العربيّة" و"أن الرجال العرب يضربون نسائهم ويتزوجون من أربع ويقتلونهنّ على شرف العائلة" وإلى آخره. واقعياً، فوضع مكانة المرأة في إسرائيل كما تنشرها وتقدمها تقارير المؤسسات الإسرائيليّة سنوياً للأمم المتحدة وغيرها تتحدث بلسان حالها، وهي ليست ورديّة على الإطلاق: فقط ٥٪ من النساء الإسرائيليّات يشاركن في سوق العمل، ١٤٪ من النساء الإسرائيليات تعرضن لإعتداءات جنسيّة حتى جيل ١٦، منذ عام ٢٠٠٨ هناك إرتفاع ملحوظ في عدد النساء اللواتي قتلنّ على أيدي أزواجهن (بالذات المطلقات منهنّ)، وعلى الصعيد السياسيّ فقد دخل البرلمان الأخير ٢٧ إمرأة من أصل ١٢٠ وهو إرتفاع ملحوظ عن دورات سابقة لم تتعدى بها أعداد النساء الـ١١، ومنذ تسعينيّات القرن إلى اليوم تراوحت نسبة النساء في الحكومة ما بين ٦ وحتى ١٨٪. وهذا حتى دون أن ندخل هنا في الحديث عمّا تتعرض له النساء الفلسطينيات، في كل أجزاء المُستعمرة.
ستبقى المشاركة الشعبيّة في النضال ضد الإستعمار هاجساً، وستبقى صورة النساء الفلسطينيات وهنّ يخرجن في مسيرات ويتقدمنها الهاجس الأكبر، وهنّ بفعلهن هذا لا يتحديّن فقط الإستعمار ورواياتهِ عنهنّ وعن مجتمعهنّ ويتعرضن نتيجة لذلك إلى عنف وحشيّ وإنتقاميّ بل أيضاً يكتبن تاريخاً جديداً لوجه هذا النضال، سُبله وقيّمه.